لبابة السر.. لشوقي كريم

لبابة السر.. لشوقي كريم
لبابة السر.. لشوقي كريم
فخُّ التلقّي الجميل
منذر عبد الحر
اعتدنا في معظم القراءات النقدية للسرد أن نطالع شرحا وتوضيحا وربما فكّ رموز النص , التي هي دائما رموز جمعية متفق عليها , وحقيقة الأمر أن مثل هذه القراءات تبتعد كليّاً عن الوظيفة الحقيقية للنقد الأدبي , الذي يسعى لتفكيك عوالم النص ورصد مسارات السرد وما قدمه السارد من رؤى وأفكار وجماليّات , وما هو الجديد في العمل الواقع تحت عين الناقد الباحث عن توهجات وأسرار النص الأدبي .

سأتحدث عن ” لبابة السرّ ” هذه الفسحة السردية التي أنجزها المبدع شوقي كريم حسن , وهو يمنحنا عملا شائكا , فيه مطبّاتٌ على القارئ أن يجتازها بدراية , وهو يصنّف قراءته من وجهتين , الأولى الشكل الكلي للعمل , بحدوده وإطاره الفني , والثانية بالتعامل مع أمواج الجمل , التي جاءت في غالبها طويلة , غير مباشرة , تلمّح , وتشير , وتستعير محسنات بديعية , كي تص إلى مبتغىً يعبر المعنى التقليدي غلى فضاء الدلالة , الذي يعطي شيئا من الحرية لقارئ النص , وهو القارئ , وليس المتلقي العابر , الذي يريد أن يلمّ بالأشياء بعجالة , دون أن يعرف العمق الذي بني عليه هذا النص – وهنا أنا أنسف فكرة “موت المؤلف ” لأن السارد ليس مؤلفا بالمعنى الحرفي لهذا الاصطلاح , بل هو صانع له أدواته التي أفترض أن القارئ على معرفة دقيقة بها ..
فحين نقرأ النص , علينا أن نقرنه بمنتجه , لغة وفكرا وشخصية ومرجعيات , فلبابة السرّ المنشورة بعد أعمال صارخة في عناوينها , غائرة في الرمز في مضامينها , معلنة مشروعا خاصا يسعى شوقي كريم لتأثيث رؤاه , وهو مشروع شخصي , يصرّ عليه , وسواء اتفقنا معه أو اختلفنا , إلا أننا لا نستطيع أن نتجاوزه , وهو الفاعل في المشهد الثقافي العراقي منذ ما يقرب لنصف قرن , لذلك لابد أن نقرأه بجدية وتفحّص ودقة , ومحبة أيضا , لأن القراءة بهذا الهاجس تجعلنا ممسكين بنقاط ضوء نستدل بها على مسارنا في خضم عالم شوقي كريم .

العمل السردي ” لبابة السر ” مكتوب نهاية عام 2000 , أي قبل الروايات ذات العناوين الصارخة وأعني ” الشروكية والهتلية و الخوشية” ..ولو عدنا إلى تلك الفترة , لاكتشفنا أن عددا غير قليل من الروائيين هربوا إلى عوالم بعيدة عن الواقع المباشر , كي يحققوا ما فقدوه من حرية في الكتابة , وهنا يكمن المبرر الأول للغور في الموروث التاريخي , واستعارة أرضية بناء الأحداث عليه بين استعارة وإيهام , وأحيانا رصد لوقائع حدثت , مع التلاعب في حركتها , كي تكون منسجمة مع جسد الرواية وكيفية تحديث شخوصها وبناء أحداثها , لنتأمل هذه الجمل الطويلة في الرقيم الأول من الرواية : ” مات ذلك الربُّ الذي ظلّت أعمارنا تتأرجح بين يديه مثل نواقيس المعابد , يؤشر إلى حيث يريد , فتنسحل مئات الأقدام ملبيّة توسلاته المنقوعة باللامبالاة ” هنا يقف القارئ , وتوقفاته تطول مع نهايات مثل هذه الجمل , وهي جمل مجنحة محلقة , تسحب خيوط الحدث معها كي تؤسس عليه بعدا جديدا , وكل هذا المخاض يجري في ذهن السارد , وهو يهرب ويهرّب معه دلالة السرد .
ووفقًا لمانغويل..” يمكن للكلمات أن تضفي تماسكًا على العالم وتوفر بضعة أمكنة آمنة تمنحنا مأوى أثناء رحلتنا عبر الغابة المجهولة والمظلمة.”
اختار شوقي مفاتيح دالة لعمله الروائي وهو ” الرقيم ” ليؤكد غوره في ماضٍ سحيقٍ , حددت التسميات زمنه , وربطته بالراهن المتماهي مع هذا الموروث , فهي ” بابل ” و” نبوخذ نصر ” والآلهة والقرابين والضحايا والعذارى , وكذلك هناك الخيط الرابط من خلال الذات الحاضنة ” شوقيا ومعلّمه البابلي ” ..

أما الرقيم , فهو اللوح الطيني أو الكتاب أو الصحيفة لترقيم الكاتب سطوره , وأيضا جاء بمعانٍ أخرى عديدة لا أجد من الفائدة ذكرها , لأن دلالة الراوي هنا جاءت من هذا المعنى , ووضع المفاتيح ” رُقُم ” إشارة إلى المدخل الأسطوري الذي تبناه النص من أجل تحقيق دلالته .
يقول السارد شوقي كريم في الصفحة “183 ” “كانت أمي تحاول لملمة أحلامها التي كانت تخاف أن تضيع سدىً , كلّ شيء كان بالنسبة مربوطا بالعودة إلى هناك , الحكايات المعجونة بالود , والفراغ العجيب الذي تجد نفسها فيه دائما , حاولتُ مرارا ولوج عالمها معتقدا أنها لابد أن تشعر بالفخر إزائي , لكنها كانت تستيقظ على صوت غريب يشبه انعكاسات الموج , ترفع راسها مستفهمة , ولحظة تراني , أغمض عيني , تمسد رأسي مستغرقة في نوم لذيذ وهي تتمتم بكلمات لم أعد أميّز منها شيئا , تهزني ” مالونيد ” بلطف لحظة تتعثر خطاي ويظل ” سن ما غرض ” آخذا خطواته المتعجلة بسرعة تجعلني أتوسل إليه بالتريث ولو لبرهة وقت “
هنا يرسم لنا الراوي مشهدا عاطفيا وجدانيا , سرعان ما يهرب منه إلى المجاز , كي يستمر في بناء ما يريده من عمله .
لبابة السر لا تنتمي للرواية التاريخية , لأنها لا تبني حدثها على متحقق تاريخي بعينه , ولا تحاكي موقعة أو حدثا , بل يمدّ السارد رؤاه إلى عمق الموروث , لينهل منه أقنعة معروفة , ويضعها على وجوه جديدة , وهو يسلب دلالتها الأولى من أجل منحها بعدا جديدا يجعل وظيفتها مختلفة , ورغم المسميات وإيحاء البيئة وأحيانا اللغة , التي يتوجها مفهوم الرقيم , إلا أنها تفتح آفاقها على واقع لتفضح فيها صورا , ينقلها السارد على جناح صناعة او إعادة صياغة الحدث وفق ما يستنطقه المجتمع في المرحلة الراهنة .
يفتتح السارد رقيم التدوين الثاني عشر ب ” بالرغم من الإحساس بالتعب والضياع بين فوّهات الكهوف والحياة التي بدت قاسية تمور بالغواية والاستهجان , إلا أن شوقيا لحظة أبصر الرقم الطينية وهي تمتد متكئة إلى الجدار الصخري بالارتياح , كان صوت سن ما غرض مازال يطالبه ليل نهار بمواصلة البحث عن الحقائق التي يعرفُ “
يأتي هذا المدخل , بعد حوارٍ سبقه في نهاية الرقيم السابق , الحوار عبارة عن جدل يبدو وكأنه مونولوج داخلي , يشير إلى , العقل والسؤال الفلسفي , والمعرفة ومفاهيم عديدة تتلاقح من أجل الإفصاح عن الفكرة التي يدور فيها السارد , ثم يمضي إلى مفتاح جديد , وهكذا تمضي الرحلة إلى تخوم الهدف الفني والفكري لرواية لبابة السر , التي امتازت بقدرة مدهشة على النمو الدرامي من خلال الحوار , البناء في التجاذب بالحديث , وهذا أمر ينم عن حِرَفِيّةٍ عالية في الأداء السردي , والحقيقة أن الكثير من الروايات الأخرى , تجعل الحوار مادة حشوٍ من أجل المط والإطالة و لكن ” شوقي ” يقدم نموذجا مختلفا , يحقق فيه رؤيته , ولا يفرّط بقيمته في جسد الرواية .
إن لبابة السر , نموذج حيّ وحيوي يكلل المشروع الروائي الجاد , للمبدع الذي يتواصل بإصرار على تكريس رؤيته الخاصة في الكتابة , وعلى تأكيد الهوية العراقية الخالصة , سواء في أعماله التي تتناول ثيمات المجتمع وأزماته بشكل مباشر , أم في النصوص التي يأخذ فيها من الموروث والتراث والتاريخ التي يستطيع استنطاقها بمهارة ودراية ووعي ..
للبانة السر , وجوه عديدة , تستدعي الوقوف الجدي عندها , وأنا ارى فيها نصا يثري التجربة السردية العراقية الجادة .
محبتي للمبدع المتجدد شوقي كريم وهو يؤكد تواصله بجدية وحماس وحرص .