فيلم أنا لست ساحرة .. إعادة تأهيل الخرافة بقوة السلطة..!

فيلم أنا لست ساحرة .. إعادة تأهيل الخرافة بقوة السلطة..!
(بغداد – آشور) صباح محسن …لايمكننا رد أو رفض او التنديد بما تم ترسيخه في العقل الجمعي للمجتمعات التي ترضخ لعقل السلطة في انتاجها لوسائل ديمومتها والحفاظ على بقاءها حتى وان كان ذلك بالسحر والشعوذة !
ولأن المجتمعات المغلقة ، والمعزولة ، بحكم ظروف خارج سياقاتها ، وباستبداد متواصل من سلطةٍ تتغذى على تلك العوامل ، المليئة بالتخلف ، والاقصاء . ما يدفع بقبول ذلك المجتمع ، بكياناته ، وامتداداته للرضوخ لما تمليه عليه تلك السلطة الغاشمة ، والموغلة باسباب انتاج ما يُديم بقاءها..؟
وكما هو مؤشر في استبيانات الرأي ، وفي كل الحقول ، تنزع تلك الاستبيانات للاشارة لتفاقم ظاهرة السحر والشعوذة ، واتخاذها منهجا للحكم في اغلب بلدان افريقيا ، ومن يشابهها في الحفر عميقا بآليات التصاق الانسان بمعتقدات خارج سياق التاريخ والحضارة ليعدها جزءً من وجوده الميثولوجي ، والاخلاقي ! وتتصاعد حدة ذلك الايمان الغير واقعي لدى تلك الشعوب بقوة ، وتأثير ، وتغذية السلطات الحاكمة لمثل تلك الظواهر والمساهمة في ديمومتها ، وتنميتها لتصبح سلوكا راسخا يصعب تدميره..!
في فيلم ” انا لست ساحرة ” تقرب المخرج الزامبي المولد الأنكليزي الجنسية رانغانو نايوني لهذه الظاهرة المستفحلة ، والمتصاعدة ، ومحاولته كشف آلاعيب السلطة في إدامتها ، وتنميتها لتغدو واقعا لابد من قبوله ؟ ليقدم قراءة بصرية آخاذة عبر سيناريو محبوك بحنكة ودراية ” المخرج نفسه هو من كتب الفيلم ووضع السيناريو له ” ليغوص بعيدا ، وبوعي لأصل الاشكالية ، والبحث في جذورها بأسلوب هادئ يبتعد عن الشعارات والمزايدات التي قدمتها السينما العالمية عبر تناولها قضايا التخلف في القارة الافريقية .
كان المخرج نايوني قد تحلى بضبط النفس وهو يتقرب لمجسات غاية في الحساسية والصعوبة ، اذ كما يعرف الجميع ان الايمانات الراسخة بذاكرة الناس ليس من السهولة الغاءها عبر منشور ، وكتاب ، او بيان سياسي ! وهذا ما نراه قائما في عمق هذه الكائنات البشرية التي تغذت على المختلف بمساعدة مريبة لسلطة اكثر تخلفا واكثر دموية .
من خلال إقامة مكان للساحرات محاط بسياج من اشجار ميتة ويابسة تم ربطهّن بأشرطة مطاطية بطلاء ابيض ترتبط بمركبة كبيرة خصصت لهذا الغرض وسط غابة جرداء الا من تواجد الساحرات من النساء في معسكر خاص بهن كونهن ساحرات ، ليبقيَّن في هذا المعسكر النائي في احدى تخوم مدينة زامبية .
المخرج نايوني استعان بكادر بسيط وحقيقي من نساء قرى زامبيا للحصول على وقع اكبر لطروحته السينمائية ، ووزع زوايا كاميرته على تلك الوجوه الافريقية البكر ، من خلال وجوه امتلئت بالتجاعيد وفقدان اغلب اسنان صاحبات هذه الوجوه ، مع لمسة ذكية من مكياج خط على وجوههن للاشارة لتعميق عزلتهن بأصباغ على طول محياهن للدلالة على خروجهن عن تقاليد الحكومة والمجتمع !
تبدء الحكاية ، او الواقعة من خلال تعثر الطفلة ” شولا ” ذات الثمان سنوات اثناء حملها جرة ماء ، لتقع من على كتفها وينسكب الماء على الارض مما دفع الذين استأجروها باتهامها بالسحر ، وهو الاتهام الاكثر قسوة في ذلك المجتمع ، لانه يأتي باللعنة على من اُتهم بمثل هذا الاتهام المخيف ، والمرعب..! لتكون شولا احدث واصغر ضحية لاحد افراد القرية والذي يقوم بأستدعاء واستنفار جميع من في القرية للادلاء بشهاداتهم ضد الطفلة شولا ، حتى اولئك الذين لم يشهدوا الواقعة..؟
وامام ممثلة الشرطة في المدينة ، والتي تشبه القرية من حيث ابنيتها ، تبدء المحاكمة ، بعدم مبالاة من المرأة الشرطية ، خاصة وانها كانت تتناول طعامها ، ويبدو انها استسلمت لمثل هذه الاتهامات الجاهزة لمن لايمتلكون سلطة او قبيلة او عائلة قوية تدافع عنهم ، وهذه اشارة من المخرج نيانو لانقطاع الكفلة شولا من انتماء…ويبدو انها يتيمة ، بحسب مجريات الفيلم ، وهي اشارة ذكية من المخرج لالباس النموذج ، البطلة ، لبوسا انسانيا ، لابراز حال الظلم الذي تتعرض له..
لتنتقل شولا لمرحلة المأساة والمعاناة والآلام ، عبر تلقفها من رجل الحكومة ، والذي يبدو انه أدمن صيد هذه الحالات ليُثري منها ، وليكون خادما مطيعا للحكومة في مقاطعته ، ويتم ربط الطفلة شولا بتفس شريط النساء الساحرات المعزولات في معسكر وسط غابة جرداء ! لتكون اصغر ساحرة يتم تطويعها لخدمة رجل الحكومة البدين والمضحك ، والقاسي السيد باندا .
ليفوم باستغلال شولا من خلال ادعاءه بان لها القدرة لانزال المطر ، وانتاج البيض دون الحاجة للدجاج..! وهكذا ، ليحصل على لقاء تلفزيوني في العاصمة الزامبية لتقديم شولا على انها ساحرة استثنائية ، ولها ممكنات لاتملكها اية ساحرة اخرى..! ومن خلال اسئلة مقدم البرنامج ، مع حضور نوع ضجت به الاستوديو ، قريب التشبث بالنماذج المستفيدة من السلطة ، وابراز وجوههم وكأنهم بأنتظار معجزة..
لكنه يفشل في مسعاه ، لتنتقل مرة اخرى لقريتها ، ومحاولة زجها في المدرسة المخصصة لابناء الميسورين والبهحة التي تلف وجه شولا تحت يقين انها اصبحت جزءً من هذا المكان ، مع تواصل ربطها بالشريط الابيض الملتصق بالشاحنة الكبيرة غريبة الشكل ، وهذا الشريط صار لصيقا بها حتى في منامها ، او في قضاء حاجياتها ! انه نوع من واقع ثقيل ومفروض كما اراد المخرج ان يوصله .
وبأدارة محكمة ، وامتلاك ناصية زوايا تصوير مذهلة ، وقراءة عميقة وصادمة لتطور حياة الطفلة شولا ، يُنهي المخرج آخر مشاهد الفيلم بزج الطفلة شولا لمعسكر الساحرات المعزولات وسط عابة جرداء ، وبأشراف رحل الحكومة المضحك والبدين السيد باندا ، وبعد ان يأس من فكرة ان شولا ساحرة ، وكونها لم تنزل المطر على حقول القرية ، ولم تُنجب البيض دون دجاج ، مع إن شولا كانت تحلم بأن تصبح عنزة لتقفز وتلعب مع باقي العنزات ، وهذه الامنية كانت قد تقبلتها بعد معاناتها من اضطهاد لاتعرف ماسببه ! وفكرة العنزة هي فكرة زرعها السيد باندى في رأسها من باب ان رفضت ان تكون ساحرة فأن الرب سيغضب عليها ويحيلها لعنزة.. !
وفي معسكر الساحرات ، تبقى وحيدة بينهن ، لفارق السن ، لان اغلبهن عجائز يؤدين رقصات واغان غير مفهومة مع مصاحبة موسيقى تشبه تلك التي تخرج من فم ساحر غير مرئي ، وقد نجحت الموسيقى التصويرية بأيصال فكرة التفكك وعدم وضوح الرؤيا لدى الساحرات وشولا سوية ، وضع الموسيقى التصويرية ماثيو جيمس كيلي وكان موفقا .
لتنتهي مأساة شولا في آخر مشهد من الفيلم ، بتصاعد درامي غاية في الروعة والبناء السينمائي حين تظهر شولا ملفوفة بعدة اشرطة بيضاء تغطي كل جسدها ، وهي تئن وتدور وكأن لوثة اصابتها ، او سحر ، او مرض غريب ، لتتجمع الساحرات عليها ، بعد ان سمعن أنينها المر ، وهي تتلوى ، لتنتهي جثة هامدة امام صدمة وحيرة وحزن العجائز الساحرات ليكتشفن موتها المباغت ، والذي بذات الحال يعد صدمة للتلقي ، ونهاية غير متوقعة لبطلة الحكاية والفيلم ، وهذه احدى الثيمات المبهرة للمخرج نايوني لقطع اي امل في مسألة تغيبر واقع مر وصعب. ! لتقوم الساحرات بأغنية فلكلورية مغلفة بكلمات تبتعد عما ألفناه حين كُن يتغنن بالحكومة من ضغط وترهيب من السيد باندا ممثل الحكومة البدين والمضحك ! لينشدن اغنية للموت ورفض الحياة المليئة بالاستبداد والقمع ، فوق رفاة شولا ، ليتمكن المخرج نايوني من اصطياد وجوه الساحرات التي جيء بهن ك كومبارس لتأدية هذا الدور عبر كاميرا فطنة للكشف عن مكونانتهن من خلال تعبير وجوههن .
وبضربة هائلة ومصنوعة بجمال وتمكن تنسحب الكاميرا لتبتعد عن الكادر وتثبيت توقغها فب مكان يتوسط العجائز الساحرات اثناء هطول المطر وبكثافة واعادة تصوير الوجوه النبلولو بالمطر والدموع وموسيقى تتصاعد لتنتهي وسط بياض نقي وصاف على عرض الشاشة ، لينكشف المشهد بعد تلك المأساة على الشاحنة التي تم ربط الاشرطة البيضاء على رولات كبيرة تغطي كل مساحة الشاحنة ، ثم صمت مطبق…
نجح المخرج في الابتعاد عن الموروث الافريقي في الغناء والتعاطي مع بعض مما تم تقديمه في افلام سابقة ، وابقى بحثه البصري محصور بين ما انتجته السلطات وما كان قد تم تقبله اجتماعيا ، دون رد..تمكن نايوني من ادواته كمخرج يقدم عمله السينمائي الاول بعد ان تزوع سابقا بين افلام وثائقية ودعائية ، ليحصد الكثير من الجوائز مثل البافتا وجائزة مهرجان كان .
الفيلم انتاج بريطاني زامبي ، ّصوّر في عدة دول افريقية ، وامكنة تحوز على مناخات قريبة لواقع الحكاية انتج عام 2017 وتم عرضه في دور السينما مطلع عام 2018 .
تمثيل مارغريت مولوبوا التي أدت شخصية الطفلة شولا وكانت معجزة بحق مع غلوريا تورست وهنري بي جاي في شخصية السيد باندا ونانسي موريلو وآخرين .
اللغة المستخدمة في الفيلم توزعت بين الانكليزية والنيانجا اللغة السائدة في اغلب مدن زامبيا .(انتهى)
