عالم غريب تخرج منه ولا تعلم من المحظوظ فيه : الموتى أم الأحياء ؟!

عالم غريب تخرج منه ولا تعلم من المحظوظ فيه : الموتى أم الأحياء ؟!
المشهد نيوز / بغداد
تحقيق / كريم هاشم ألعبودي
سكان المقابر.. يزاحمون الموتى وهم أحياء عند ربهم يرزقون !!
- أمرأة : جيراني الموتى هم أحسن الجيران التي جاورتهم في حياتي اذ لا غيبة ولا نميمة , فبالي مرتاح وحالتي النفسية بأفضل حال مما كنت عليه يوم كنت أجاور ألاحياء !!
- كيف يعيش سكان المقابر؟ ما هى أبرز همومهم اليومية؟ وما هى جهود الحكومة لتخفيف الأعباء عنهم وحل مشاكلهم؟
- قدمت فهيمة لنا كومة من الأوراق التى دفعت مقابلها الملايين لكل من يأتى إليه بكذبة عن شقق بسماية وغيرها من المجمعات السكنية !!
تقسم ام احمد التي اختارت السكن في مقبرة وادي سلام منذ ما يقارب الثلاثة اعوام بعد ان اجبرها صاحب الملك على ترك منزلها , على ان جيرانها الموتى هم أحسن الجيران التي جاورتهم في حياتها , اذ لا غيبة ولا نميمة , وبحسب قولها فان بالها مرتاح وحالتها النفسية بأفضل حال مما كانت عليه يوم كانت تجاور ألاحياء !!
بين الموت والحياة
سكان المقابر شبكة متصلة بين الحياة والموت ما أقرب التشابه بين الحياة فوق الأرض وتحت الأرض، بالنسبة للمعاناة التى يعيشها هؤلاء فى انتظار الموت, الذى يعد بالنسبة لهم المُخَلص المنتظر.
ويبقى السؤال: كيف يعيش سكان المقابر؟ ما هى أبرز همومهم اليومية؟ وما هى جهود الحكومة لتخفيف الأعباء عنهم وحل مشاكلهم؟
عشنا مع سكان المقابر يومان لإلقاء الضوء على ظلمة الحياة هناك. المكان يبعث على الكآبة والوجوم مجرد دخوله، وهو نموذج يجسد معاناة المهمشين فى بلد يعد من اغنى بلدان العالم ، الحياة يخيم عليها الموت من كل جانب، هنا أحلام تولد وتموت وتدفن مع أصحابها فى نفس البقعة من الأرض، أحلام سكان المقابر تحاصرها أربعة جدران, ينفذ منها هواء برائحة الموت !!
حديثنا مع الحاج ابو حسين / 64 سنة , يثبت لنا بالدليل المادى أن حلمه فى الخروج من المكان قد مات، لظروفه الصعبة مات الأمل بداخله منذ عقود، وترك روحه وحيدة بلا حلم تتحمل عبء جسده الثقيل إلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولاً.
ويتساءل بأسى : أين هو الموت ؟ معتبراً أن الموت امتياز لم يحصل عليه حتى الآن، لذا فأموات المقابر أكثر راحة من أحيائها، بعد أن وجدت أرواحهم الخلاص، وتحررت من أجسادهم وشقائها. وتحدث لنا ابو حسين عن مأساته، وكيف انتهى به الحال إلى اليأس فى الخروج من المقابر قبل أن يدفن بها، قائلاً: كان حلماً وانتهى جاء ابو حسين من احد مناطق بغداد الشعبي إلى مقابر النجف ، هرباً من الفقر, وراجياً فى الحياة الكثير، عمل فى الكثير من الأعمال البسيطة، التى اخترقت طفولته طولاً وعرضاً، ولم تحترم صغر أنامله، ودقة أطرافه, حتى تحول إلى رجل صغير ، مرت سنوات طويلة دفنت خلالها طفولته، وبقى الأمل فى سنوات الشباب، عمل سائقاً وتزوج وأصبح أباً لأربعة أبناء، ومازال فى المقابر وكيف يخرج منها وهو بالكاد ينفق على أطفاله الأربعة. وهنا توقف حلم الخروج من المقابر على قدميه، أو حتى على نقالة. ربما يمكننا تقبل فقدان الأمل فى خروج ابو حسين من المقابر لكن الغريب أنه بعد مرور 60 سنة من مأساته قدر له أن يرى أحفاده يعيشون نفس الظروف، ويتذوقون معاناة الحياة فى المقابر.
مأساة الحفيد
( علوكي ) , هو الحفيد الذى كتب له أن يكون بطل مأساة جده، والتى يزيد عمرها على 60 عاماً، هذا ما تخيلناه لكن الحقيقة أن مأساة الحفيد تتفوق على مأساة الجد، فـ ( علوكي ) يعيش طفولة يسير فيها المرض جنباً إلى جنب مع الفقر، وقلة حيلة الوالدين، وفى ظل حكومات متتالية لا تنظر إليه وأمثاله بعين الاعتبار يعانى الحفيد مرض السكر ويبحث مع والدته يوميا عن العلاج المجانى، وإلا فالتسول وانتظار الإحسان ليضمن يوماً جديداً فى الحياة، وإن كانت بين الأموات.
الحياة هنا نعمة !!
فى أحضان مقابر النجف تعيش الحاجة فهيمة منذ اعوام ، وتعتبر هذه الحياة نعمة من الله بعيداً عن الناس الذين تحركهم الأطماع، ويقضون حياتهم فى تدبير المكائد لبعضهم البعض، استسلمت فهيمة للعيش فى المقابر متخذة هذه الحجج سنداً له، أمام عائلتها وتبريراً لعجزها عن الخروج من المقابر. فقد حاولت كثيرا أن تحصل على شقة أو حتى غرفة صغيرة فى أى بقعة لا يسكنها الأموات، لكن ما باليد حيلة، وهي عاملة بسيطة تعمل على سد جوع 4 بنات ، وغير قادرة على شراء شقة أو حتى تأجيرها. مما جعلها لقمة سائغة فى أيدى باعة الوهم. لقد قدمت فهيمة لنا كومة من الأوراق التى دفعت مقابلها الملايين لكل من يأتى إليه بكذبة عن شقق بسماية وغيرها من المجمعات السكنية !!
الموتى مسالمون
وبمكان اخر وبابتسامة مشرقة وسط عالم الغروب استقبلنا الطفل أحمد كان يحاول استعادة كرته من فوق منزل المقبرة غير عابئ بمن تحته، فهو يعلم بوجود الأموات، ولا يخشاهم قالها ببراءة شديدة : أنا العب معهم دائما ولا احد يأخذ الكرة مني , ويقصد قبور الاموات !!
ربما رسالة أحمد شديدة الشبه برسالة فهيمة لنا عن حسن جيرة الأموات وتفضيلها عن جيرة الأحياء خارج المقابر، فالطفل أحمد يعيش خارج المقابر، فى شقة صغيرة ، لا يستطيع اللعب بحرية إلا عند جده فى المقابر ..
تقول أم أحمد إن الحياة خارج المقابر ليست أفضل كثيراً من الحياة فى المقابر، غير أنها أكثر ضجيجاً، وتضيق بأصحابها، عاشت أم أحمد قبل زواجها فى المقابر.وكانت تتمنى أن تخرج لتعيش بين الأحياء إلا أنها صدمت بالواقع المر، إن العراق مليئ بالمهمشين، وأن سكان المقابر لا ينفردون بالعذاب عن غيرهم، كما أن أولادها ليسوا أسعد حظاً منها فهم يعيشون طفولة قاسية، ويعانون الحرمان من اللهو والتجول فى الشارع، خاصة بعد انتشار حالات الخطف واختفاء الأطفال في مناطق الكرادة والمنصور , فلا تجد أم أحمد الأمان إلا عند الأموات.
حلم الخروج من المقابر !!
أما زهرة علي / 49 سنة، خريجة الدراسة الاعدادية , تنتظر تحقيق العدالة الاجتماعية، فهى مازالت تعيش وسط الموتى وتتمنى تحقيق حلم الخروج من المقابر ، مؤكدة أن الفرق بينها وبين الميت هو قدرتها على الحلم من أجل مستقبل أفضل لها ولأسرتها. فالحياة فى المقابر طالها الممل والإحباط ، ويسيطر عليها بعض ضعاف النفوس , ، فبعد غروب الشمس تختبئ النسوة والاطفال داخل اماكن سكنهم خوفاً من المنحرفين وبعض السحرة والمشعوذين الذين يتخذون المقابر ملجأ لهم فى الليل، أما اللصوص فيطرقون أبوابنا لإثارة الرعب بداخلنا، وفى كل مرة نفتح فيها الباب لا نجد سوى الظلام، ونتظاهر بالسعادة، والرضا مدعين أننا أكثر إيمانا من غيرنا. لكن الحقيقة أننا مغلوبون على أمرنا، والفرق بينى وبين غيرى أننى مازلت أشعر بشبابى قادماً فى مستقبل بناتى، ولابد أن أطالب بحقهم فى حياة كريمة، لا تنتهك طفولتهم كما هو الحال فى المقابر.
لا احب السكن مع الاحياء !!
محمد قاسم / شاب عمره 32 سنة اختفت ملامحه العراقية تحت ملامح البؤس والشقاء، ولد محمد فى المقابر وعاش ثلاثة عقود كالأموات مع أمه وأخيه، وفى يوم من الأيام خرج محمد إلى العمل وعاد ليجد أمه وأخاه الأكبر احترقا، بعد أن اشتعلت بهما النيران، واتحد رفاتهما مع رفات الأموات فى المقبرة، وأغلق المكان بعد الحريق على الجثث الحديثة، والقديمة، حينها قرر محمد الهروب من المقابر وحاول العيش بين الأحياء لكن سرعان ما عاد أدراجه، بعد أن يئس فى الحصول على مسكن غير المقابر.
يعيش محمد فى إحدى مقابر كربلاء ، يتكون مسكنه من غرفة واحدة مظلمة فيها: سرير وطباغ وخزانة ملابس وفراش متهالك ، وخارجها حمام مثير للاشمئزاز، وحبل ممتد إلى الحائط حاملا بعض الملابس المنشورة، ويقول: كل الأبواب أغلقت فى وجهى إلا المقبرة احتوتنى، اليوم يبدأ بمآس وينتهى بمآس.
مسكنات خطيرة !!
هدية عبد الحسن / 40 سنة , هجرها زوجها وتشرد أبناؤها الثلاثة بعد مرضها وبقيت وحيدة تصارع الموت الذى لا يرحمها حتى الآن. كل ما تتمناه هدية أن يسكن عنها الألم، بعد أن أصيبت بتليف كبدى، وغيره من أمراض الشيخوخة المبكرة، لا تحصل هدية على علاجها لذا تلجأ إلى المسكنات الخطيرة حتى تعجل من موتها بدون ألم، ولأول مرة يتصدق تجار المسكنات , على امرأة تحتضر.
أضيع وسط الاحياء !!
الحاج سعدي رغم جهله، إلا أنه رجل الدين فى مقابر النجف وملجأ الباحثين على الصبر. لا يخشى سعدي من المقابر, فيجد فى نهارها الوعظ، وفى ليلها الاطمئنان ويقول: تعودنا على الموت، فكبرنا ولعبنا معه, فالحياة هنا هادئة وسهلة، وعندى انتماء للمكان، ولا أرغب فى الاختلاط بالفوضى والسيارات، لأنى أضيع وسط الأحياء. ويتمنى لأحياء المقابر أن يأخذوا فرصتهم فى الحياة، فهذا أبسط حقوقهم فى الحياة، فليس كل البشر مثله يعيش فى المقابر راضياً، وشاكراً هذه النعمة.
إلا أنه مشغول دائماً بمشاكل الناس وهمومهم، كما أنه مسئول عن توزيع المهام فى المقابر بين شبابها , كما أنه مسئول عن توزيع المساعدات على سكان المقابر.
حكاية الشابة هبة
هبة / 23 سنة ، رغم ما تتمتع به من جمال وحيوية إلا أنها رضيت بالعيش فى بيت صغير يطل على المقابر منذ زواجها، لا يشغلها التفكير فى المسكن أكثر من تفكيرها فى مرآتها المعلقة على أحد الشواهد، وطريقة وضع مكياجها، وألوان ملابسها، أهم لديها من الطعام وكيفية الحصول عليه، تتباهى هبة بشبابها وحيويتها أمام الأموات، فهى تعيش رغم الموت, هذا ما قالته عنها حماتها المسنة الحاجة ام حسن /75 سنة، التى ترى أن هبة وجمالها يلهيها عن واقعها القاسى، فمع مرور الوقت ستشعر هبة بملل الموتى يتسلل إلى جسدها الجميل، وحزن الزوار على موتاهم يخترق ما تدعيه من سعادة.
بقى أن نذكر أن عالم المقابر تخرج منه ولا تعلم من المحظوظ فيه. الموتى أم الأحياء؟!