ظننتُ نفسي مثقّفاً

ظننتُ نفسي مثقّفاً
ظننتُ نفسي مثقّفاً
كتب: منتصر صباح الحسناوي
قبل سبع سنوات، نشرتُ تغريدة تساءلتُ فيها عن تعريف المثقّف كنت واثقاً من أنّ من يكتب عن الثقافة لا بدّ أن يكون مثقّفاً، وربما خُيّل لي ذلك بعد أن توسّعت مكتبتي، ونلتُ شهادةً عليا وصدر لي عدة مؤلفات، وصرتُ أحضر مجالس كبار المثقّفين، وأتردّد أحياناً على شارع المتنبي ومقاهي “المثقّفون وربما كان من دوافعي أن يُقال عني مثقّفاً، لأنّي كنت واثقاً من ذلك. .
كنتُ حينها أريد أن أبرهن أنّ الأمر لا ينحصر بشاعرٍ يصدح بأبياته في أمسية، أو أديبٍ يُمسك بقلمه كأنّه سيفٌ من نور، أو من يُتقن الحديث عن الكتب التي قرأها أو لم يقرأها أصلاً.
كثيراً ما يتمّ الخلط بين المثقّف ومظاهر الثقافة، بين وجود الشهادة وعدمها، بين القراءة والوعي، بين نشر المعلومة وعيش الفكرة.
وهل يُمكن لمزارعٍ بسيط، أو بائع خضار، أو عامل بناء أن يكون مثقّفاً؟
وهل الطبيب والمهندس والمدرّس، إذا لم يكونوا من أهل الشعر واللغة، يُحسبون خارج هذا العالم؟
وعلى الرغم من تداخل الكثير من النقاشات حينها، والتي أجبرتني على مراجعة عددٍ من النصوص في هذا الأمر، أظنّ أنّ الغرور قد اتّسع بي حتى ظننتُ أنّ بإمكاني أن أضع تعريفاً جامعاً!
فتجرّأتُ على وضع تعريفٍ للمثقّف ظننته حاسماً:
“ذلك الإنسان المتعلّم الذي اطّلع على التاريخ بتنوّع مصادره، ليكون له رصيدٌ معرفي يمكن من خلاله قراءة الأحداث المعاصرة وما يدور في المجتمع دون ميول أو تطرف، لتنعكس إيجاباً على فعله في الواقع، مما يعزّز الثقة بالنفس دون الغرور، ويكون مؤثّراً في مجتمعه دون الاستعلاء.”
وأعتقد أن تلك النقطة زادت من انتباهي، وبدأتُ ألاحظ مفارقةً غريبة: إن عدداً غير قليل من أولئك الذين يتحدّثون باسم الثقافة لا يطبّقون شيئاً مما يدّعون إليه.
كانوا يكتبون عن الحرية وهم يُقصون المختلف، ويتغنّون بالأخلاق وهم يضمرون الكراهية، ويشجبون الكسل وهم لا ينتجون شيئاً.

غير أنّ ما اكتشفتُه لاحقاً، أنّ كلمة “مثقّف” نفسها لا يمكن أن تُفهم دون أن نستحضر معها سعة الكلمة الأم: الثقافة.
فلا يوجد تعريفٌ واحد حاسم للمثقّف، لأنّه ابن السياق، ابن الفكرة التي يحملها والموقف الذي يتّخذه.
من ينظر إلى المثقّف من زاوية الفنّ يراه مبدعاً، ومن ينظر إليه من زاوية الاجتماع يراه واعياً ومسؤولاً، ومن يدخل إليه من باب الفكر يراه أخلاقاً وموقفاً قبل أن يكون علماً أو بلاغة.
لهذا، كلّ محاولة لتعريف المثقّف لا تكون صحيحة إلا بقدر ما تعترف بتعدّد وجوهه.
ومع التراكم بدأ تصوّري عن المثقّف يتغيّر.
أدركتُ أنّه ليس ثوباً نرتديه أمام الناس، وإنّما فكرٌ نعيش به مع أنفسنا.
ليس كلمات نُتقن نطقها بقدر ما هي مواقف نُجيد الوقوف عندها.
وأدركتُ، شيئاً فشيئاً، أنّ القراءة ليست تكديساً للمحفوظات ولا سباقاً في الاستظهار، لذا زاد لديّ حُبّ القراءة التي تمنحني معنى، التي تُضيف لي شيئاً أعيشه لا شيئاً أكرّره.
ربما لا أحفظ كثيراً من النصوص، لكنّي أُحسن تذكّر الفكرة وأُرافقها وأُعيد استحضارها كلّما لزمني المعنى.
أمّا الشعراء والأدباء فهم ملحُ الثقافة ولسانُ حالها وهم جزءٌ أساسي من معنى المثقّف، لكنّهم ليسوا وحدهم.
المثقّف قد يكون مزارعاً يؤمن بالأرض، أو عاملاً يصون كرامته، أو مدرّساً يُؤمن برسالته، أو طبيباً يُداوي بإخلاص.
المثقّف لا يُختصر بشهادته ولا بمكتبته، بل بما يمنحه من أثر وبما يتحمّله من مسؤوليّة.
المثقّف اليوم، في نظري، هو من يحمل حسّاً أخلاقيّاً تجاه العالم.
هو الذي يحترم الفكرة كما يحترم الإنسان، ويعيش ما يؤمن به، حتى وإن لم يملك مفردات شاعر.
قد لا يكتب قصيدة، ولا يروي حكاية، ولا يظهر في منبرٍ أو شاشة، لكنّه حين يتكلّم تُصغي الحياة إليه.
هو من يعيش أسئلته قبل أن ينطق بها، ويلاحق المعنى لا المفردة، حتى لو ظلّ سؤاله معلّقاً بين الشكّ والإيمان.
وربّما المثقّف لا يُعرَّف بالسلطة المعرفيّة التي يملكها وانما بالحسّ الأخلاقي الذي يدفعه لأن يكون صادقاً مع أفكاره وواقعه.
وقد لا يحمل كتاباً في يده، لكنّه يحمل أثراً في سلوكه، ولا يُلقي محاضرة، لكنه حين يتكلّم تُصغي الحياة إليه.
ولعلّني حين شككتُ بأنّي مثقّف، كنتُ أقترب من المعنى فعلاً.
فالمثقّف ليس حالةً نبلغها وانما سؤالٌ نكبر به وقلقٌ لا يهدأ إلا ليوقظنا مرّةً أخرى.
وما ذكرناه “ليس تعريفاً للمثقّف” وانما محاولة للاقتراب من المعنى عبر التجربة والشكّ والمراجعة،
ومع أنّه كُتب من وحي تأمل شخصي، إلا أنّه لا يبتعد كثيراً عن تصوّرات عبّر عنها بعض المفكرين
عن إدوارد سعيد الذي رأى في المثقّف صاحب موقف أخلاقي لا مجرد ناقل للمعرفة.
وعن أنطونيو غرامشي الذي فتح الباب أمام المثقّف العضوي، ذاك الذي يعيش في الناس ومن أجلهم.
وعن عبد الجبار الرفاعي الذي جعل من الثقافة طريقاً لفهم الذات والعالم لا سلطةً للتفوق أو امتلاك الحقيقة. والقائمة تطول …. لكنها مجرد محاولة أن نُشبههم في الحفر وراء السؤال لا التمسّك بالجواب