أيهم العباد : كيف أكتبُ قصيدةَ حبّ واحدة لا تحاصرها بنادق القتلة ؟

أيهم العباد : كيف أكتبُ قصيدةَ حبّ واحدة لا تحاصرها بنادق القتلة ؟
الشعر الجيد يمنح الشاعر حياةً ثانية وعمراً أطول
ألا يستحق منا الوطن أن نوقف كل حياتنا الشعرية رهن حياته وحرّيته؟
شخصيتي تميل إلى التمرد وكسر الجمود والتحرش بالمحظورات في الكتابة
(صلاح الدين – آشور).. افتتح مسيرته الشعرية بمجموعة (رقصة على إستحياء) عام ٢٠١٥ الصادرة عن دار الروسم في بغداد، والتي نالت صدى نقدياً واسعاً، ما جعلها تُطبع مرة ثانية في دار فضاءات الأردنية عام 2018، ليعود في أواخر عام ٢٠١٩ ويكتب للحب والحياة من جديد في مجموعته الجديدة (قبل أن ينقرض العالم) الصادرة عن دار سطور في بغداد أيضاً، إنه الشاعر العراقي أيهم محمود العباد، فـتعالوا لنُحلق في فضاء حُلمِه العذب .
حاوره : أحمد عبد الله الجميلي
*”قبل أن ينقرضَ العالم” هو عنوان مجموعتك الشعرية الثانية، ما الدلالة الرمزية فيه؟
– قد تبدو في العنوان لمسة تشاؤم، لكن من يقرأ المجموعة يمكنه أن يجد ما يبرر حضور كل تمثلات الغياب وضبابية المستقبل في العنوان القائم على كلمة “ينقرض”، بالمناسبة، عثرت على هذه الكلمة مصادفة، بعد مرور أكثر من نصف عام على بداية العمل بالمجموعة. لا أميل هنا إلى تشاؤم شوبنهور أو عدمية كامو أو عبثية بيكيت، لي رؤيتي الخاصة، وقد اخترت كلمة “العالم” بناءً على يقيني المطلق بأن العراق هو مركز العالم. العراق يختصر أسرار الكون، هو اللغز الذي يتعقّد أكثر بمرور الزمان، لغز مدهش، فاجع، موجع، مُربك، وآسر في آن واحد.

*افتتحت كتابك هذا، بنص للشاعرة لميعة عباس عمارة، هل يمكن أن نعدّ تلك البداية اعترافاً منك، بأن الشعر يقودك إلى خيارَين: مقبرة أو حياة، للشاعر؟
– بكل تأكيد، فإن الشعر الجيد، أؤكد لك، الشعر الجيد يمنح الشاعر حياةً ثانية وعمراً أطول. الشعر الرديء ينقرض لا محالة، وفي النهاية، سيخلد الشعر المسكون بروح الشاعر في مخيلة القرّاء زمناً طويلاً، عندئذ تكون مهمة الشاعر قد تحققت بشكل كبير. لم يكن اختيار الأبيات مبنياً على هذا المعنى. أعتقد بأن الشاعرة مجّدت الشعر كفن إنساني يحمل رسالة كونية أكثر من كونه حالة إبداعية مرتبطة بجوهر الشاعر. تعودتُ أن أصدّر كتبي بمقطع شعري أو نثري يلامس روحي، لشاعر ما، وهذه ليست بدعتي، فقد اعتاد شعراء كثيرون على ذلك، وأذكر أن أحد الشعراء كان يقول: (أضع العتبات في مطالع الكتب، لأنني أخشى الدخول إلى القصيدة وحدي).
*ما سبب وضوح الكوميديا السوداء التي دونت بها قصيدة (خرق أمني) التي تقول فيها (حين تأخر الموتُ عن زيارتنا هذا اليوم، أعربَ المسؤولُ عن قلقه الشديد، وأمرَ بفتح تحقيق عاجل في الجريمة !)؟
– هذا النص ينطوي على تهكم سياسي مقصود وسخرية مبكية واضحة، وفي ذلك تلخيص للواقع اليومي الفنطازي الذي نعيشه بما يشبه الكوميديا السوداء حقاً. هذه صرخة من صرخات كثيرة في الكتاب، أليست واحدة من مهام الشاعر أن يصرخ بوجه الظلم والطاغوت؟ كيف يمكن أن أكتب قصيدة واحدة مفرحة وبلدي يُصنف كمكان غير صالح للعيش؟ تخيّل. كيف أكتب قصيدة حب واحدة لا تحاصرها بنادق القتلة ولا تتلطخ بدم الأبرياء؟ ألا يستحق منا الوطن أن نوقف كل حياتنا الشعرية رهن حياته وحرّيته؟ نعم ، ذلك هو السؤال الأكبر، ولن يسكت الشعراء الأحرار، مثلما تنبأ بريتولد بريخت.
* وجدنا في كتابك الكثير من صور التناص القرآني، إلامَ يعود ذلك؟
– ربما هي مؤثرات المناخ العائلي، لأنني أساساً، وُلدت في بيت له مركزية دينية. سحرتني اللغة القرآنية منذ المراحل الأولى، فقد وجدتُ فيها الأنموذج الأعلى في صياغة الجملة وتركيب الصورة، وبلا شك، ظلت هذه اللغة تتداخل وتتفاعل مع معطيات أخرى في بوتقة واحدة، حتى كوّنت لغتي الخاصة التي يرى نقاد كثيرون بأنها لغة نقية لا تتشابه مع لغات الشعراء الآخرين. لغتي تشبه المركبات الكيميائية، وأنا أسعى دائماً لتجديد أدواتي داخل المختبر حتى لا أسقط في فخ التكرار أو التأثر بمناطق شعرية مجاورة.

*المطلع على كتابك الأول (رقصة على استحياء) يجد حساً مختلفاً عن كتابك الثاني، هل أضفت آليات كتابية جديدة ؟
– قلت في إجابتي قبل قليل، بأنني دائم الانشغال بتطوير وتجديد أدواتي الشعرية، فمن الطبيعي والمنطقي أن يجد القارئ اختلافاً بين الكتاب الأول والثاني، وسيجد فروقاً أخرى في الكتاب القادم الذي أعمل عليه الآن. الخبرة الأدبية لها دور مهم أيضاً. ما أكتبه اليوم يبدو أكثر نضوجاً وتماسكاً مما كتبته بالأمس. في الكتاب الأول، كنتُ أتمرّن على الكتابة حتى أصل إلى لياقة شعرية تؤهلني لكتابة قصيدة ترضيني وترضي الناس، في الكتاب الثاني وجدتُ نفسي لاعباً أساسياً داخل ملعب الشعر. ولا أخفيك، في مرحلة إنتاج الكتابين، أتلفتُ عشرات النصوص لأنها غير مقنعة. هذه مزاجيتي في الكتابة.
*أغلب من كتبتَ عنهم، هم شخصيات راحلة، لم لا تكتب عن شخصيات على قيد الحياة ؟
– أكتب للغائبين جسداً لأنني على يقين من حضورهم الروحي وإن كان حلماً، هؤلاء الذين ذهبوا إلى عالم الغيب، ينظرون إلينا بعين الشفقة، إذ أنهم أحياء ونحن ميتون في مستنقع الكراهية. أهديت بعض نصوصي لشخصيات ماثلة في الحياة، ليس لأسباب تعود إلى معرفتي بهم، إنما لعلاقة الرسالة التي تحملها النصوص برسالة ما في حياتهم الشخصية أو الإبداعية. أنا سعيد جداً بشخوصي الشعرية، أشعر بأنني كتبت لمن يستحقون الخلود داخل الشعر وخارجه.
*أنت الآن تدرس الماجستير في اختصاص اللسانيات والترجمة، ماذا أضافت لك هذه الدراسة على مستوى الرؤية الشعرية ؟
– تخصصي في اللسانيات والترجمة فتح لي نوافذ أكثر اتساعاً، عرّفني على مناطق شعرية لم أقرأها من قبل، والترجمة، مثلما تعرف، جسر بين ثقافات الشعوب، وهذا ينعكس على الشعر بكل تأكيد لأنه مادة أساسية تشغل مختبرات المترجمين منذ القدم. تعاملي مع الشعر هنا، لا يتصف بالحساسية الإبداعية فقط، وإنما يقوم على روح الباحث الأكاديمي المسلح باشتراطات وضوابط علمية ومنهجية تمكنه من كشف جماليات النص والهبوط إلى طبقاته الداخلية بمستويات دلالية وتداولية متنوعة.
*هل سنراك ناقداً في يوم ما ؟
– لا أعتقد بأنني سأمارس دور الناقد مستقبلاً، لأن شخصيتي، عكس شخصية الناقد، تميل إلى التمرد وكسر الجمود والتحرش بالمحظورات في الكتابة. هناك مشروع كتاب حواري طويل مع قامة شعرية عراقية معروفة أعمل على إنجازه في الأشهر المقبلة، وستكون للكتاب مقدمة مفصلة عن تجربة الشاعر، لكنها ليست نقداً، إنما أعدّها انطباعات ورؤى خاصة مبنية على تذوق جمالي شخصي.

*ما هو مستقبل قصيدة النثر على مستوى الساحة الشعرية العراقية، وبماذا تنصح من يكتبونها من هذا الجيل ؟
– أعتقد بأن قصيدة النثر، التي انطلقت شرارتها منذ عهود مبكرة في تاريخ الشعر العربي، ستشغل ذاكرة الأجيال القادمة لزمن طويل، فقد استطاعت هضم الأجناس الأدبية الأخرى بطريقة تقف لصالحها لتمنحها عمراً طويلاً. سر قصيدة النثر يتجلى في قدرتها على الانبعاث مثلما تنفض الأشجار أوراقها كل موسم لتكون أكثر ألقاً وجدارة بالحياة. قراءة الشعر العربي والنثر العربي معاً، مهمة جداً لمن يكتب قصيدة النثر أو غيرها، حتى يتمكن من فهم تلك العلاقة الجدلية بين الأجناس والأنواع الأدبية والخطوط الفاصلة بين جنس وآخر وكيف تنصهر هذه الأجناس مع بعضها من أجل تحقيق فائدة النص، إضافة إلى الاطلاع الواسع على التراث والتاريخ والفولكلور وغيرها من الحقول.
*نود أن نقرأ أغرب إهداء كتبته على مجموعتك ؟
– كتبتُ لصديق مقرّب، إهداءً على طريقة المكاتبات بين الملوك والأمراء، بدأته بعبارة (أما بعد) ، وكان مضمونه يحمل تهديداً ساخراً إن لم يقرأ الكتاب جيداً ويدلي برأيه بشفافية عالية.
*قصيدة قصيرة تختم بها حديثنا هذا ؟
متى ؟
إلى: فاتن التي لا يشبهني أحدٌ سواها.
أعرفُ بأن المسافة بعيدة جداً
بين لندن وبغداد
وأعرفُ أيضاً
بأن قلبَينا موزعان
على عدد السنين التي
مشيتِ فيها من مطار إلى مطار
دون أن أحمل حقيبتكِ مرة واحدة
ولكن
كلُّ ما يسعدني هذه اللحظة
أنني أمتلكُ نسخة أصليّة منكِ
نسخةً أحبُّها وأحبكِ
أكثر من بغداد